في الذكرى السادسة والأربعين لرحيله: ما الذي تبقى من السياب؟

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/01/2011 06:00 AM
GMT



في الذكرى السادسة والاربعين لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب ثمة من يبحث عن الوجوه الثاوية للسياب، الوجوه التي تكشف عن قلق الشاعر والانسان والايديولوجي وصاحب الاوهام والشتائم، اذ ان فيها الكثير من أنسنة السياب المحمولة على روحه (الآدمية) الملتاثة باخطاء اصحاب العقائد الصانعين السريين لمحنة العراق السياسي المعاصر. استعادة هذه الوجوه لانها بعض ما تبقى من السياب الاثر والظاهرة الشعرية المؤسسة، فهل ان معطف السياب مازال حقا هو المعطف العائلي للقصيدة العربية الذي تخرج من ثقوبه العصافير والمناشير؟ وهل ان ظاهرة السياب مازالت هي المهيمن اللاوعي الذي يمارس سطوته الابوية على توليدات القصيدة؟ وهل ان للسياب وجها آخر اختلط فيه النفسي مع السياسي مع الثقافي؟

بعض وجوه السياب لا يصلح لان يكون جزءا من أثره، وجزءا من (حروبه) المصابة بهوس التجديد، لانها مليئة بالفجائع الشخصية، والمراثي الاخلاقية، وبعضها مكشوف على عقد الايديولوجيات التي تحارب بعضها البعض دون هوادة.

من هذه الوجوه الغامضة ما تجلى في رسائله الشخصية، تلك التي تحولت الى (خدعة) أكلت الكثير من أثره، وشوشت على بعض ظاهرته في مجتمع (يسيّس) الثقافة، ويؤدلج الشعراء.

سأحاول في هذه القراءة التعاطي مع بعض هذا الوجه الآخر للسياب الثقافي/الانساني/المعذب، السياب الذي اضطر تحت مهيمنات الجوع وبعض غواية الشارع العراقي الضاج ان يمارس ادوارا تتجاوز أثر فاعليته الشعرية وتضعه في السياق الساخن للصراعات السياسية والايديولوجية التي كانت تعصف بالحياة العراقية منذ نهاية الخمسينيات، واذا كانت هذه القراءة تكشف عن بعض شحوب الوجه الآخر للسياب، فانها بالمقابل تكشف عن الجوانيات الاضطرابية الراكزة في لاوعي الشاعر والتي نعتقد باهميتها في الكشف عن ثيمة القلق في شعريته وفي عوالم قصائده، تلك التي اسبغت عليه نزوعا وجوديا، وتمردا حسيا، مثلما كشفت عن ان فكرة التمرد على الاشكال لم يكن خاضعا لاسباب فنية مجردة، او لاسباب مجردة تتعلق بتأثره بعوالم شعرية (سوداوية) انكليزية وترجمات لعبت دورا في تشكيل مرجعيات وعيه وملامح التجديد في نصه الشعري، والافصاح عن نزعته الرثائية لكل ما يحوطه فقط، وانما لاسباب تتعلق بقلقه العميق، وهوسه بالتمرد والمغايرة، والاحتجاج، وربما النزوع الى الكراهية والسخط والكآبة، والتي نجدها في نصوصه النثرية/رسائله او اعترافاته، تلك التي نظن باهميتها في دراسة العوالم السرية لظاهرة السياب الشعرية والانسانية..

بدر شاكر السياب ظاهرة شعرية حاضرة في الذاكرة دائما، نضعها عند كل موسم ثقافي امام المزيد من القراءات والتأويلات والاجتهادات الجديدة، تلك التي تكشف عن مستويات قرائية اكثر اثارة للاسئلة حول شعريته وشخصيته. ولكن ثمة عديدا من هذه القراءات تبدو وكأنها محاولة للنيل من الكارزما السيابية، وترحيل ظاهرته من سياقها الشعري الى سياق شخصاني يوحي بالكثير من الاشكالات والتقاطعات والاسئلة، خاصة في ما يتعلق بشخصيته المزاجية و(محدودية ثقافته) كما يصفها الناقد احسان عباس، حتى بتّ احسب ان هذه القراءات تحمل موقفا قصديا من السياب السياسي وليس السياب الشعري او ربما هي كتابة تفترض صيغة المؤامرة!

ولعل صدور كتاب (كنت شيوعيا) الذي ضمّ مجموعة من اعترافات السياب ورسائله عن دار الجمل يكشف هذا الهوس بالاثارة، والقصدية بالبحث في زوايا عوالم السياب الشخصية عن ملفات تثير اللغط حول شخصيته المضطربة والمزاجية ومواقفه غير الواضحة من الصراعات السياسية والاجتماعية والايديولوجية التي كانت تعتور الحياة العراقية آنذاك..

ضمّ هذا الكتاب 29 حلقة من الاعترافات/الرسائل، التي كان قد نشرها السياب سابقا عام 1959 في جريدة الحرية البغدادية لصاحبها ورئيس تحريرها المحامي قاسم حمودي المعروف باتجاه القومي المناوىء للاتجاهات الشيوعية التي كان (شيوعها) في الشارع العراقي اقرب الى الظاهرة الشعبية في الخمسينيات..

لقد حملت هذه الاعترافات/الرسائل نزوعا ساخطا ضد الشيوعيين العراقيين، نعتهم السياب باوصاف حادة ومشينة تكشف عن موقفه السياسي المتقلب، مثلما تكشف عن مزاجه المضطرب وانعكاس تداعيات خصومته مع الآخرين، فضلا عما تكشف عن فطرته وبساطته في التعاطي مع (مشكلات) السياسة وظواهرها، اذ ان السياب كان في وقت ما نموذجا للشيوعي الملتزم و(المنظمّ) والذي كثيرا ما امتدح الشيوعيين وحمل شعاراتهم في الكتابة الشعرية (عالية الصوت) وفي المشاركة بتظاهراته التي كانت تعصف بالشارع العراقي تحت يافطة الثورة والاحلام والاشتراكية. وقد تحمّل ازاء هذا الانتماء الكثير من المضايقات والمطاردات التي جعلت الحكومة الملكية بعد تخرجه من دار المعلمين العالية، تنفيه الى المدن البعيدة، حيث تم تعينه معلما في مدينة (هيت) البعيدة جدا عن العمران الثقافي وضجيج اليوميات الثقافية التي ألفها، حيث كان هذا التعيين شكلا من اشكال النفي السياسي كما جرت العادة للذين يناوئون النظام السياسي..

هذه الاعترافات حملت العنوان نفسه، لانها بدت وكأنها اشبه باعلان البراءة، وطبعا هذه البراءة تجد عند الخصوم السياسيين اهتماما واضحا، اذ رغم عدم اهمية هذه الرسائل/الاعترافات من الناحية التاريخية وضعف مستواها الفني وحتى (الانشائي)، لكنها كشفت عن ازمة السياب الشخصية، وعمق معاناته، فضلا عن محدودية ثقافة السياب الاجتماعية والسياسية، خاصة من ما تمظهر في انفعاله مع معطيات الظاهرة السياسية والحزبية التي كانت ظاهرة (اجتماعية) اكثر من كونها ظاهرة ايديولوجية عميقة الاثر، وهشاشة قدرته في (السيطرة) على سياق ما يثيره الجدل المنفعل والساخط مع الافكار التي يناوئها، كما انها وجدت ايضا عند اصحاب التيار القومي، وهم الخصوم التقليدون للحركة الشيوعية في الخمسينيات والستينيات حظوة كبيرة، حيث سارع رئيس تحرير جريدة الحرية قاسم حمودي المحامي وهو والد جعفر قاسم حمودي عضو القيادة القطرية في حزب البعث في العراق آنذاك والصحفي سعد قاسم حمودي وزير الاعلام في السبعينيات من القرن الماضي الى الاهتمام بنشرها في صحيفته وبطريقة تبدو فيها ملامح التشفي..

لاشك ان فضاء صراعيا وصاخبا وجدلا واسعا قد اثاره نشر مثل هذه الكتابات، لان السياب كان شخصية عامة اولا، وكان الجدل السياسي والحزبي على اشدّه في نهاية الخمسينيات في العراق ثانيا، فضلا عما ماثله ايضا على الساحة اللبنانية من اسئلة خاصة بين مريدي التيار القومي والتيار اليساري والتيار المجذوب الى اشكال الحداثة (صاحبة الريبة) ثالثا بين اصحاب مجلة شعر، ومجلة الآداب.

كل هذا جعل هذه الرسائل بمثابة الانفجارات التي ملأت الساحة الثقافية بالكثير من الشظايا والدخان. خاصة وان هذه هذه الكتابات كانت بتوقيع شاعر مهم مثل السياب وانها تمسّ بعض خفايا الجوانب الاجتماعية والاخلاقية والسلوكية للشيوعين الذين يمثلون ظاهرة اجتماعية واسعة، حتى بدا واضحا فيها بان السياب مهووس بفكرة التشهير والشتيمة، وانه لا يفقه شيئا عن الشيوعية وان انتماءه اليها وطوال سنوات الكلية (معهد المعلمين العالي) والعمل في مجالها التنظيمي كان جزءا من الانتماء للهيجان الشعبي..

حاول السياب ان يوظف وعيه (الثقافي) في تبرير خصومته مع الآخرين من خلال استعارته رواية (1984) لجورج اورويل المشهورة في عداوتها للشيوعية وهيمناتها، ومقابلة حيوات ابطالها مع يومياته وخصوماته، لكنه سقط في نوبات المزاج المنفعلة القلقة، اذ بدت الاعترافات فاضحة وحادة وتخلو من الشعرية طبعا! وضعت السياب في خانة صانعي الشتائم وفاضح الاسرار، واظن انها عكست جوهر شخصيته المزاجية المتقلبة، حيث لم تحمل هذه الاعترافات أي وعي بالمشكلة السياسية او حتى بالايديولوجيا، بقدر ما حملت هوسا ساخطا، تبلبل بالتوهان اللغوي الذي تختلط فيه الشتيمة بالرغبة بالاعتراف بالسخط، اذ حاول تحت هذا التوهان ربط الظواهر قسريا مع بعضها، فهو يرى ان مظاهر الانهيار السياسي لثورة تموز 1958 ترتبط بنزوع التفرد عند قوى معينة، مثلما يرى ايضا ان أزمة هذه القوى السياسية ترتبط بموقفها من الدين، إذ عمد السياب وبشكل فاضح الى تهويل هذه الطروحات والمواقف واستخدام التوصيفات الحادة وغير المهذبة احيانا، حتى تبدو وكأنها اشهار بالقطيعة او الكشف بان كتابته/اعترافاته تلك هي بمستوى تصفية حسابات مع اصدقاء الأمس!

حملت الرسائل/الاعترافات الكثير من التفاصيل اليومية لبدر شاكر السياب خلال وجوده داخل التنظيم السياسي وفي اسفاره وهروباته خاصة الى ايران وعلاقته بحزب توده الشيوعي، اذ بدا وكأنه يعيش أزمة نفسية انعكست فيها رغبته العارمة في التمرد، وعدم انسجامه مع طبائع الايديولوجيا التي يحملها الحزب ودوره الشعبي في مرحلة ما بعد، 1958 وصراعاته الداخلية التي تختلط فيها مشاعر الحسد والكراهية والخوف والغيرة من اسماء معينة يعرفها جيدا كاصدقاء ورفاق، لكنها تبوأت مراكز مهمة في الحزب، فقدمها السياب بنوع من السخرية السوداء المعبرة عن ضغائن واحتجاجات تعتمل في داخله..

ويبدو ان السياب لم يكن صادقا وحقيقيا في كل هذه الاتهامات والاعترافات والمواقف المنفعلة حيث ظل يعيش ازمة صراعية عميقة انهكت قواه مع ما كان ينهكه المرض الذي جعله جليس المستشفيات.. فقد نشرت مجلة (الاغتراب الادبي) التي كانت تصدر في لندن والتي يصدرها الشاعر العراقي صلاح نيازي وزوجته القاصة سميرة المانع في عددها (25) موضوعا تحدث فيه السيد عبد الصاحب الموسوي وهو من اصدقاء السياب القلائل، خلال زيارته للسياب في ايامه الاخيرة في مستشفى الكويت، حيث قال (كنت اكثر زائريه القليلين مكثا عنده واستماعا اليه، وكانت به رغبة شديدة للكلام عن كل شيء والتحدث في كل موضوع وخصوصا ما يتعلق بحاله وتنكر الحكومة العراقية له، وكان يشعر بندم جارح حين يتذكر مقالاته التي نشرها ايام عبد الكريم قاسم في جريدة قومية بعنوان (عندما كنت شيوعيا) وكان يشدّ بيده اليمنى (السليمة) على شعره الخفيف ويصرخ بكلمة شتيمة على نفسه لانه ارتكب تلك الحماقة ورضي ان يكذب عن رفاق لايستحقون ان يوصموا بما وصمهم به على طول تلك المقالات، وكان يقسم باسلوب متشنج ان كل ما كتبه كذب في كذب اضطره على ارتكابه سوء وضعه الاقتصادي، كما كان يذكر بندم شديد قبوله للمساعدة التي قدمها عبد الكريم قاسم من اجل ان يتعالج في الخارج)18

هذه الاعترافات المضادة تكشف هول الأزمة والحرمان اللتين كان يعيشهما السياب، وهول مطروديته وجزعه من الحكومات التي تركته نهبا للجوع والمرض والموت، فضلا عن خرابه الروحي الذي جعله يشتغل في منطقة بعيدة جدا عنه، منطقة المؤامرة والشتيمة والخصومة غير الواعية مع الآخرين ومع أزمات السياسة الايديولوجية التي تحمل بطبيعتها مزاج الهواء والهروب الدائم نحو غواية الجهات..